المراة العصرية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


كل ما يخص المراة في الحياة الجديدة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ديننا اليوم

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
نرجس
مدير
مدير
نرجس


عدد المساهمات : 106
تاريخ التسجيل : 17/02/2012
العمر : 35

ديننا اليوم Empty
مُساهمةموضوع: ديننا اليوم   ديننا اليوم Emptyالأربعاء مارس 14, 2012 7:51 pm

هل للدين في هذا اليوم دور يذكر؟ وهل في هذا الحفل، وفي
قاعة كلية الحقوق، وبدعوة من الشباب في الأمسيات الثقافية، هل في هذا الجو،
الذي هو لليوم وللمستقبل، والجو الذي يطالب المحاضر بإلحاح، أن يكون في
حديثه موضوعيًا; في هذا كله، هل يمكن التحدث عن الدين واليوم؟
موقف
حرج، ولعله غريب. اليوم وقد بلغت الحضارة ما بلغت ودخل علينا عصر الذرة
والفضاء، أو دخلنا على عصر الذرة والفضاء، والتكنيك المتطور المستعجل، الذي
يسلب من الإنسان فرصة التفكر والتخطيط. اليوم وقد ارتفع صرح العلم وأحاط
بكل شيء. فلا صغر الذرة منع تحديد أبعادها، وتقدير وزنها، ولا كبر
السحابيات حال دون شمول العلم لها. اليوم، وقد بلغت تجارب البشر ذروتها في
الحقوق والقوانين، وتنظيم السباق بين بني الإنسان، وفي اختبار الأنظمة
المتفاوتة الإجتماعية; اليوم وقد اكتمل إدراك الإنسان للكمالات الخلقية
والقيم السامية، وحتى الجانب الماورائي، ما اختفى عن حدة ذكاء الإنسان
الخارق، فوضع على ضوء الآثار الطبيعية، وجمع التجارب، وتنفيذ العلوم، وضع
أسسًا وقواعد لما وراء الطبيعة.
وبعد ذلك، وبعدما تدخل العلم في جميع
حقول الدين، حتى البحث عن ما وراء الطبيعة، فكيف بالحلال والحرام،
والقوانين والأخلاق. بعد ما تدخل العلم، والتجربة البشرية في جميع حقول
الدين. وبعد هذا كله، ماذا يمكن أن يبقى للدين من دور في يومنا هذا؟
هذا
في العالم، وفي لبنان، وفي شرقنا العربي. وبعد ما أصبحنا نعيش في موكب
الحضارة العالمية، كجزء من كل، بل كفرع من أصل، من هذه الناحية حكمنا حكم
العالم. ثم بصورة خاصة دخلنا محنة لا رأي فيها إلا للقوة والسلاح. ولا كلمة
في ميدانها إلا للسياسة والدعاية، وللسباق في حقل الإنتاج المادي
وللتكنيك.
نحن هنا، وفي الشرق نعيش صراعًا، أصله وفصله، مادة ومادة،
وشؤون المادة فماذا يتمكن الدين من أن يقدمه لنا في هذه الحلبة؟ وفي هذا
اليوم بالذات؟
نحن أمام هذه المحنة، على ما نحن من الفرقة، حتى بوسائل
التجمع، التفرق على وسائل التجمع. نحن على ما نحن من الفساد، من غلبة
الأنانيات، من طغيان المصالح الخاصة، من التناقضات، من عدم الإحساس
المشترك، من ترامي وتنابذ المسؤوليات. نحن على ما نحن، هل يمكن أن يقدم
الدين خدمة لنا في لبناننا، وفي بلادنا العربية؟
أسئلة أختصرها وأوجزها
لأن المستمع لها، يكرهها قبل المحاضر، ولأنني أحاول فرط جهدي المتواضع في
سبيل الجواب عنها. ولكنني أراني مضطرًا للبحث عن جانبي موضوع محاضرتي.
موضوع محاضرتي: «الدين اليوم»، ولكن لهذه الجملة معنيان:
ـ الأول، واقع الدين في هذا اليوم.
ـ والثاني، ماذا يؤدي الدين؟ أو ماذا يتمكن الدين أن يؤدي في هذا اليوم؟
والمعنيان
يكونان حقيقة الموضوع. فلسفيًا أيضًا، حيث إن الفعل والقوة، أو الصورة
والهيولى، كانتا منذ العهد القديم للفلسفة، قوام كل موجود. ففي كل شيء صورة
فعلية، وقوة لتحويل الشيء إلى المستقبل. فالنواة مثلًا، والحبة، لها صورة
فعلية، ولها تمكن التحول إلى شجرة أو إلى نبات. موضوع محاضرتنا أيضًا يتكون
من الجزأين. ما هو وضعنا وحالتنا الحاضرة، التي تسميها الفلسفة القديمة
بالصورة؟ وماذا نتمكن أن نكون، التي تسميها الفسلفة القديمة «بالهيولى» أو
«بالقوة»؟ ولعل التعبير الحديث لهذا التقسيم، التعبير المعروف بإسم thèse
وAntithèse ، يكون أخف من هذا المعنى. أما واقع الدين في يومنا هذا، بالإذن
من أصحاب السيادة، لأن هذا اعتراف مؤلم، ولكن هذا الواقع، وإذا ما اعترفنا
بالواقع لا نتمكن أن نبني المستقبل.
واقع الدين في يومنا هذا، فهو في
حقل الإيمان تصور لا تطبيق، على حد التعبير المنطقي. لوحة في قلوب
المنتسبين إلى الدين، جامدة وجميلة. ولكنها لا تقطع ولا تمنع. وفي أفضل
الحالات، الإيمان أصبح تعزية عند المحن والشدائد. لا تحريك وتشجيع للتغلب
عليها. ويستعمل الإيمان كثيرًا كعازل وعائق عند أبناء البشر بعضهم عن بعض.
وفي حقل الشريعة، تراث حقوقي، أصبح جمالاً للممارسين في نظر العرف المتدين.
الذي لا يمارسها، لا بأس عليه، والذي يمارسها هذا جمال فقط. تبرير!
الشريعة أصبحت في يومنا هذا تبريرًا وتعويضًا وغفرانًا، لكثير من المعاصي
الجسام. يرتكبون المعاصي، ثم يمارسون بعض الطقوس كتعويض وغفران. أيضًا قيد
لا لزوم له، يرغب الإنسان المعاصر، التحرر منه.
وفي حقل الأخلاق، كمال
نفسي خاص، يخص الفرد دون التجاوز إلى المجتمع. وفي رأي آخر، الأخلاق أصبحت
اليوم وسيلة لنجاح الفرد في السياسة، أو التجارة، أو الإنتاج. حتمًا قرأتم
كتاب «ديل نيجر» المعروف «كيف تكسب الأصدقاء؟»، «كيف تشتغل بالتجارة؟»،
وأمثال ذلك. الأخلاق في عرف اليوم وسيلة لكسب الزبائن. وسيلة للنجاح في
السياسة، وسيلة للنجاح في التجارة. الأخلاق، ليست شيئًا معنويًا، وإنما هي
أصبحت جزءًا من النجاح المادي، ووسيلة جديدة من الأسباب المادية.
أما
في حقل الثقافة، فهو، أي الدين، تفسيرات جاءت متأخرة، تتطور حسب التطور
الحاصل. ولكن التطور ليس من صنعه، وإنما هو من صنع الآخرين، من صنع
الحضارة، والدين يلحق حاله. فيفسر، ويعطي تفسيرات، ويحاول الانسجام بينه
وبين الركب العالمي. فإذًا، تفسيرات متأخرة.
والسلطة الدينية أصبحت
مرحلة من التاريخ لها معطياتها، وتتقوض ككل مرحلة من المراحل. أما المؤسسات
الدينية، ففي الغرب، في الحقيقة، أصبحت جزءًا من المؤسسات الحضارية، ليس
لها الدور الأصيل وإنما تمشي مع مشي الركب الحضاري الحديث، من دون أن تقود
موكب الحضارة.
وفي البلاد الشرقية، في بعضها، المؤسسات الدينية معزولة
تمامًا، مثل الحكام السابقين. وفي بعضها تقلصت، فأصبحت داخل مجتمعات خاصة
محدودة برجالها، تُحترم، إذا وقفت عند الحد الذي فرض عليها ورواسب وبقايا
في قلوب الناس، قد يمكن التعبير عنه بأنه يشكل جزءًا من العقل الباطن.
والتجارب
الدينية، أصبحت أمجادًا لماضي الأمم، للماضي فقط. وبعبارة موجزة، في ركب
الحضارة الحديثة المعاصرة، لا يتحمل الدين دورًا قياديًا. بل أنه منقاد، لا
قائد. منفعل وليس بفاعل. يمشي الدين وراء الركب باحتشام وكبرياء. يحاول أن
ينسجم مع السابقين. وفي كثير من الأزمنة والأمكنة، يستعمل وسيلة للتكتل
والتحزب. ولكن يقود التحزب، الذي هو باسم الدين، يقوده أبعد الناس عن
الدين، فالأبعد. ويتكلم عنه أكفر الناس بالدين، فالأكفر. وفي سالف الزمان،
مثل الآونة الأخيرة، استعمل الدين شعارًا لمحتويات غير دينية. فالأفكار،
والمبادىء المستقلة التي هي من إنتاج الحضارة في الغرب، استقلت المبادىء
فوجدت بعيدة عن التكوين الديني.
هذه المبادىء تُدخَل في عقول الناس
مكتوبة على أوراق دينية. وتُشرَّب لعقول الناس بكؤوس دينية. شعارات، وأسماء
فقط، أما المحتويات فليست دينية. طقوس، وتراث، وتكتلات، ومؤسسات، وقيود،
هذا هو الدين في يومنا هذا وفي أفضل الأحوال، زاد للآخرة، ووسيلة لتعبيد
طرق الموت. والغريب أن بعض رجالاته يكفرون بحقيقته قبل الآخرين قلت إنه
قيود. سمعت بعض رجال الدين، كان يحاضر منذ سنتين في مؤسسة دينية، في بحث
كلامي، كان يريد أن يفضل دينه على سائر الأديان، كان يقول إن دينه يسمح
لأبنائه أن يتركوه. فدينه أقرب إلى الحرية، لأنه يوافق على التحرر منه;
فإذًا، هذا الرجل يؤكد أن دينه قيود. فليعلم هذا الرجل، أن الإنسان بشكل
عام، وفي هذا العصر، خُلِقَ حرًا، ولا يرغب أن يتقيد.
وفي ختام هذا
العرض المحزن، لا بد لنا أن نسجل أن الفطرة البشرية، التي طالما نادت
وتنادي بالدين، قد ضعفت وذبلت، في هذا الجو غير الملائم وفي كثير من
الحالات، تحولت إلى هياكل وآثار. وبعد هذا العرض الموجز جدًا، ننتقل إلى ما
يمكن للدين أن يؤديه للعالم، وللشرق العربي، وللبنان في يومنا هذا ثم نبحث
عن الطرق لتحقيق هذه الأمنية.
كان للدين حينما برز، دور أساسي في
تحريك التاريخ وفي تربية الإنسان. وإذا لاحظنا دوره آنذاك، في وقت كان يوم
الدين، ليس اليوم. وإنما نستعرضه لكي نجد ما هو الدور المرتقب من الدين.
إذا
لاحظنا دوره آنذاك، نجد أضواء على جواب سؤالنا. الدين، يرتكز في أول خطه،
النقطة الأولى للدين، ترتكز على الإيمان بالغيب. الإيمان بالمطلق، الإيمان
بالله. هنا نقف لحظة لكي نجد الإنسان المعاصر، هل هو بحاجة إلى الإيمان
بالغيب وإلى الإيمان بالمطلق أم لا؟ قد يتبادر إلى الذهن أن التقدم العلمي
المدهش، وتقدم الفكر البشري، والتكنيك والفلسفة، وغير ذلك، تقدم هذه
الأشياء لا يبقي مجالًا للحاجة إلى الإيمان بالغيب، أو إلى الإيمان
بالمطلق، لا نحتاج إليه. ولكن الحقيقة عكس ذلك. فالعلم، والفلسفة، والحقوق،
والفن، والتكنيك، وسائر منتجات البشر مهما بلغت، ولو بعد مئات السنين بعد
ذلك، كل ما هو من صنع البشر، ومن إنتاج البشر، كل منها متكامل، وهذا لا
ينكر. لأننا في الحقل العلمي، أو الصناعي، أو الفلسفي، أو الحقوقي، دائمًا
باستمرار البشر يتقدم ويتكامل. ومعنى التكامل: التطور والتغير، ومعنى
التغير: التزلزل. لأن الشيء الذي أعلمه اليوم، قد لا أعلمه غدًا. وقد أعلم
ضده غدًا، كل شيء في جميع الحقول، متغير وما دام العلم في تكامل فهو متزلزل
ومتغير. وهكذا شأن الفلسفة، والفن، والحقوق. بعبارة موجزة، كل ما هو من
صنع الإنسان، في تكامل، وما دام في تكامل، فهو في تغير وفي تزلزل، وما دام
الأمر متزلزلاً لا يمكن أن يكون مستندًا للإنسان، إلهًا له. هذه الأمور،
العلم، والفلسفة، والفن، والصناعة، والحقوق، مخلوقات الإنسان، وليست خالقة
للإنسان.
الإنسان يحتاج في حياته إلى آلة. وهذه الأمور آلات، ولكنها
ليست بإلهٍ للإنسان; لأن هذه الآلات تتغير ولا يمكن أن تكون سندًا، ومتكأ
للإنسان. هذه النقطة، وهي قضية حاجة الإنسان إلى المطلق، إلى شيء يرعاه
دائمًا، إلى شيء لا يتغير; الإنسان يحتاج إلى أن يستند إلى شيء لا يتركه في
جميع حالاته، وإلى شيء لا يتغير، يتمكن من الاستناد إليه. هذا الشيء
المطلق لا يمكن أن يكون من مصنوعات البشر، وإذا كان للإنسان نقطة ثابتة
يعتمد عليها في جميع الأوقات، وفي جميع الظروف والأحوال، فقد يجد الإنسان
نفسه قويًا متينًا، يتمكن من أن يعطيه القوة الكافية الدائمة للإنطلاق. هذا
المعنى الذي يعبر عنه القول الكريم {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ} [الرعد، 28].
الإنسان يعمل ويتعلم، ويفكر، ويستعمل هذه
الوسائل في سبيل تطوير حياته. ولكن هذه الأمور ليست آلهة. بعبارة أخرى،
الله أو الإله خالق الإنسان. وكما أنه خالق الإنسان، مبدأ نشاطاته
وفعالياته. فالشيء الذي ينبثق منه جميع نشاطات الإنسان، نسميه إله الإنسان.
فهل يتمكن أن يكون مصدر جميع نشاطات الإنسان، غير المطلق، الذي يلهمه
الأمل والحركة، والفاعلية في دائم الأحوال. هنا نقطة جوهرية; كل ما لنا من
الإنتاج، كل ما هو من صنعنا من الفكر، أو الفلسفة، أو العلم، أو القانون،
أي شيء من الأشياء، ما دامت من نتائج البشر، فإذًا، تبدأ من الإنسان، تنطلق
من الإنسان، مخلوقة للإنسان. تنبثق وتتجه من هوى الإنسان ورغبة الإنسان.
ولكن الإنسان، من أين يأخذ؟ وعلى أي شيء يستند؟
هنا يأتي معنى الإله
الذي أعطى الوجود، ويؤتي جميع النشاطات والفعاليات. فإذًا، وجود الله
المطلق هو سند وسبيل لبقاء الإنسان متحركًا قويًا، متينًا دائمًا. وننطلق
من هذه النقطة إلى نقطة ثانية. فالإيمان بالغيب مبعث الأمل الدائم، والأمل
حقيقة الحياة. إذ انقطاع الأمل، انقطاع الإنسان عن المستقبل. فالإنسان الذي
لا أمل له، يعني لا يفكر في نفسه في الساعة القادمة، ليس موجودًا في
المستقبل. بل هو باقٍ في الحال، والبقاء في الحال يعني الجمود، والجمود
يعني الموت. فإذًا، الأمل حياة الإنسان، ولو افترضنا أن الإنسان لا يؤمن
بالمطلق، يبلغ الإنسان في محنته، في مرضه، في حوادثه حدًا يبلغ غاية
إمكانات الإنتاج البشري، فيحصل اليأس، فيموت، وإن كان حيًا فيُحرم ويحرم
الأرض من طاقاته. وبقاء الأمل في الإنسان لا يمكن إلا بالإيمان بالمطلق.
وإلا، فإذا قام الاستناد على منتوج الإنسان، وإنتاج الإنسان، هذا الإنتاج
له حد، وحينما بلغت المحنة والمرض، والظروف والشروط التي يعيشها الإنسان
هذا الحد، يلتقي عمله في المستقبل.
فإذًا، حياة الإنسان، وبقاؤه،
وأمله، مشروط بالإيمان بالمطلق. هذا المبدأ الذاتي والسير في الخط إلى
الأمل يتوقفان على الإيمان بالمطلق. أما الغاية فهي أيضًا تتوقف على
الإيمان بالمطلق. إن اللانهاية، والإيمان باللانهاية أي المطلق هو طريق
الاكتفاء الوحيد عند الإنسان الطامح.
إن مشكلة الطموح اللانهائي في
الإنسان، مع نهاية وسائل تحقيق الأهداف، هي أساس الصراع الدائم بين الأفراد
وبين الجماعات، فالإنسان لا يقتنع بما يمتلك، ووسائل الإنتاج محدودة عنده.
وهنا يحصل الصراع المستمر; ولا تحل المشكلة إلا بتوجيه الطموح البشري نحو
اللانهاية، لكي لا يموت الطموح ولكي لا يحصل اكتفاء دون صراع، لأن هناك
نقطتان:
إما أن نحد من طموح الإنسان، وإما أن نفتح له طريقًا لا نهاية
لها حتى يتمكن من السير الدائم. فإذًا، الطموح، وبقاء الطموح، الذي هو شرط
أساسي لبقاء الإنسان، وعدم خلق الصراع، والمشاكل في مجتمعاتنا لا يمكن إلا
بالإيمان بالمطلق، وأن يجعل الإنسان غايته الكسب من المطلق قدر المستطاع.
والإيمان بالغيب، الإيمان بالغيب يوسع مفهوم الإنسان عن نفسه، لأن الإيمان
بالغيب يربطه بالله، مالك الموت والحياة. فما دمت أنا معلول لله، ومخلوق
لله، فإذًا، أنا من الله، ومنسجم مع الله، فلا أموت، وأنا أخلد وأكون
خالدًا. فالإنسان المؤمن بالله يرى نفسه خالدًا، يملك حياة مادية، هذه
الحياة ملك الإنسان، ولا يمكن انتزاع الخلود من الإنسان. ممكن انتزاع
الحياة من الإنسان ولكن لا يمكن انتزاع الخلود من الإنسان.
وهكذا بعدما
آمن الإنسان بالله مالك الموت والحياة، وأصبح يؤمن بأن الخلود لا ينتزع
منه أبدًا، يتغلب الإنسان على الموت ويستعمل الحياة، كل الحياة وسيلة، لا
غاية. فيتمكن الإنسان عند هذا من تعميق العطاء; لأن العطاء قد يكون بالمال،
وقد يكون بالطاقة، وقد يكون بالفكر، متى يمكن للإنسان أن يعطي كل ما يملك؟

حينما يؤمن بالخلود، وإلا فإذا أعطى الكل، لا يبقى شيء حتى يملك. لكي
نحافظ على شيء يملك ويعطي ويجب أن يكون الإنسان مؤمنًا بالخلود. فإذًا،
تعميق العطاء، إلى حد عطاء النفس، من آثار الإيمان بالله مالك الموت
والحياة. وهنا تتكون الطاقة الهائلة. وبهذه المناسبة نلاحظ كيفية التعبئة
عند الدين، وسر نجاح الدين في أول الأمر بالرغم من قلة المتدينين، وكثرة
الأعداء. ففي التاريخ نقرأ كيف انتصر المسيح مع قلة ضئيلة على أعداء
كثيرين، وهكذا انتصر «محمد» مع قلة ضئيلة على أعداء كثيرين، ما هو سر
النجاح؟ وكيف أن الفرد المؤمن نتيجة للتعبئة الدينية كان يتحول إلى طاقات
هائلة؟ كيف كانوا يشحنون الفرد ويعبئوونه أمام المعركة ولأجل العطاء؟
لا
موت في الطريق، لأن الإنسان إذا سلك سبيلًا لأجل الوصول إلى نجاح أو إلى
غاية أو إلى انتصار، ومات دون الوصول إلى الانتصار، مات ومات ذكره.
المجاهدون الذين ماتوا دون الوصول إلى نهاية الثورة، أو نهاية الجهاد،
أصبحوا منسيين، لا اسم لهم في التاريخ. التاريخ يشرح ويذكر المنتصرين فقط.
أما الذين ماتوا دون الوصول إلى الغاية، أما الذين ماتوا في الطريق، وسقطوا
في الطريق، فلا يذكرهم التاريخ، ولا يذكرهم الناس. نعم! يبنون لهم تمثالاً
رمزيًا باسم الجندي المجهول، أما أكثر من هذا فليس هناك من تقدير.
أما
المدرسة الفكرية الوحيدة التي تعتبر أن الإنسان، وإن مات قبل الوصول إلى
النهاية فهو المنتصر، وجزاؤه محسوب ويسجل ضمن المنتصرين فهي الدين.
فالإنسان في الطريق الديني يعرف، سواء بلغ الغاية، أو مات دون الوصول إلى
الغاية، فهو المنتصر {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة، 52]. هذا كان شعار المجاهدين الأولين، سواء
انتصرنا، أو قتلنا دون الوصول إلى النهاية، فنحن منتصرون. ففي طريق الموت،
وفي طريق الدين، لا فشل، ولا سقوط، ولا موت.
ثانيًا، الأخطاء، كثيرًا
ما يتفق أن الإنسان يخطىء في سبيل الوصول إلى غاية وفي سبيل الدفاع عن
مهمة، فهذه الأخطاء لا تغتفر. والمدرسة الفكرية الوحيدة التي تقدر الطاقة
المبذولة في الخطأ، هي الدين. الطاقات غير المرئية محسوبة في المنطق
الديني، إعطاء لون العبادة إلى الفعل. فالفعل الخارجي ذو لون عبادي، وإذا
كسب الفعل لون عبادة فقد أصبح هنيئًا وقريبًا إلى ذهن العامل. والتعبئة
النفسية تبلغ كمالها حينما نجد أن الإنسان في سيره الكوني منسجم مع الكون،
ومنسجم مع الجو الصالح الذي يتكون من عبادة كل شيء، وسجود كل شيء،
وبالنتيجة، الوسيلة الكاملة لتجنيد طاقات البشرية، كل طاقات البشر بما فيه
تصميم الحياة لأجل العطاء والبناء هو وسيلة التعبئة الدينية. أي عطاء؟ وأي
بناء؟
هنا أحب أن أقف بعض الشيء، حتى أقول إننا في البناء الديني، لا
نقصد بناء المساجد، والكنائس فقط. في العطاء الديني لا نقصد، الصلاة
والصيام فقط. بل نقصد كل ما هو من تكوين الحضارة البشرية، ودور الإنسان في
الحياة، وكل ما هو من نتيجة عمل الإنسان في الحياة. إذا صدر عن الإنسان
بنية حسنة فقد نسميه عبادة، وبناءً، وعملًا مقبولاً عند الله. فإذًا، نحن
نبني الأرض بناء صحيحًا كاملًا، ولكن بأمر السماء. {وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص، 77].
العمل اليومي في
المنطق الديني، إذا صدر بنية حسنة، فهو عبادة. فإذا قلنا أن الدين يجند
طاقات الإنسان، حتى يتمكن الإنسان من البناء، إنما نقصد البناء الحضاري ككل
بناء قائم. ثم تنسيق حركات الأفراد والجماعات والموجودات. فالإنسان كلما
ارتفع يلتقي مع الآخرين، وكلما انحط يفترق، ويبتعد عن الآخرين. وأشرف وأرقى
الغايات يجمع أغلب الناس مع بعض ولهذا يقول القرآن الكريم: {لَوْ
أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال، 63]. فالغاية التي تتمكن
أن تجمع بين جميع الأهداف، وجميع المصالح، وجميع الناس، وجميع الجماعات، هي
الغاية التي تكون أسمى من سائر الغايات.
إستعراض موجز حتى ندخل في
صميم الموضوع. والإيمان بالعدالة الإلهية، وبأن الله هو الحق وأنه الكمال.
هذا الإيمان ينعكس على مفهوم الإنسان عن نفسه، ومفهوم الإنسان عن الإنسان،
ومفهوم الإنسان عن التاريخ وعن الكون، وعن كل ما حوله. فيعطي الإيمان
بالعدالة الإلهية مفهومًا منسجمًا جميلًا عن كل ما حول الإنسان من الأشياء.
هذا بعض ما يعود للإيمان، ونتيجة الإيمان حينما برز.
هنا ندخل في
نقطة، طالما نوقشت وفسرت تفسيرات خاطئة. الإيمان هذا، بما له من الآثار،
صفة نفسية; ذاتية كانت، أو كسبية. هذا الإيمان يبرز في تصرفات المؤمن
بشعور، أو بلا شعور. ولكن من ناحية ثانية، التصرفات هذه أيضًا بدورها تصون
الإيمان في الإنسان. فالجسم والروح ليسا شيئين منفصلين، بل هما شيئان
متفاعلان، حتى يقول الفلاسفة المتأخرون إن الروح جسمانية الحدوث، نتيجة
للتفاعل العميق الذي وجدوه بين الجسم والروح. فإذًا، ما دام الجسم والروح
متفاعلين، لا يمكن تجزئتهما بعضًا عن بعض، فلا يمكن أن نتجاهل تأثير وتأثر
التحركات البشرية، ومواقفها، سلبية أو إيجابية في صيانة الإيمان.
الإيمان
ينعكس على الأفعال. والأفعال تصون الإيمان بشكل متفاعل. إذا تركنا
الأفعال، والتأثرات العملية فسوف يضعف الإيمان ويموت في نفس الإنسان.
وحينئذٍ، لكي يبقى الإيمان تدخَّل الدين في تنظيم صلات الإنسان مع الله،
وصلات الإنسان مع أخيه الإنسان، وصلات الإنسان مع الكون. ذلك الذي نسميه
بالعبادات، والمعاملات والأحكام. لكي يبقى الدين، ولكي يبقى الإيمان، يجب
أن نهتم بآثار الدين في العمل الخارجي. يعني يجب أن نهتم بكيفية حياة
الإنسان على وجه الارض.
هنا أرجو الإنتباه، قلنا أن الإنسان لكي يصون
إيمانه يجب أن يمارس عملًا ما. فإذا قلنا أن الإنسان يكون مؤمنًا، ممارسًا
للعمل الديني في العبادات فحسب، وأما سائر أفعال الإنسان، بعبارة عصرية،
حياة الإنسان على الأرض، إذا قلنا أن مبدأ تحركات الإنسان في هذا الحقل،
يعني صلة الفرد مع الفرد، صلة الفرد مع الكون، الأعمال الصادرة عن الإنسان
التي نلخصها فنقول حياة الإنسان على الأرض. إذا قلنا أن الإنسان، في حياته
على الأرض، حر ينبثق عمله من نزعة غير دينية. بعبارة موجزة، إذا طلبنا
ودعينا إلى علمنة حياة الإنسان على الأرض.
فإذًا، العبادات تنبثق من
الإيمان وتصون الإيمان. أما غاية حياة الإنسان على الأرض، أنا حينما آكل،
أشرب، أبني، أعاشر، ما هي الغاية والباعث والدافع لسائر أفعالي ما عدا
العبادات؟ هذا، إذا تحقق هذا الشيء. نحن مبدئيًا نريد أن نصون الإيمان،
نصون الإيمان عن طريق العبادات. أفعال الإنسان على الأرض، الأفعال العادية،
الصلات مع الناس، مع الكون، ما هو حافز وسبب هذه الأفعال؟ تقول:
الإنسانية!
فإذًا، العبادات تكرس صفة الإيمان بالله، وتقوي هذه الصفة.
والأفعال الخارجية، تقوي إيماني بالإنسان هنا نصل إلى مفترق; الإنسان،
والإيمان بالإنسان مبدأ لتصرفاتي في الأرض، ومع بني الإنسان. هذا الإنسان،
أي إنسان تقصد؟
الإنسان الذي هو من صنع الله، أو الإنسان المنفصل عن
الله. إذا قلت مبدأ تصرفاتي من الخارج، وسبب علمنة الحياة على الأرض،
إيماني بالإنسان المنفصل عن الله، فإذًا، هنا حصل الشرك، وعبادة غايتين،
وتأسيس هدفين، ونمو إيمانين، يتجزأ وينفصل أحدهما عن الآخر. أنا أؤمن
بشيئين بالله وبالإنسان. فلأجل الله أعبد وأمارس بعض الأعمال، ولأجل
الإنسان أعمل، وأتصرف، وأمارس، وأعاشر، وأشتغل، وكل الأعمال التي تتلخص في
حياة الإنسان على الأرض. تكريس لمعبودين، لإلهين، لأن مصدر انطلاق الأفعال
هو الذي نسميه بالله، أو هو الذي نسميه بالإله الموجود. فإذا كان هناك
تجزء، وغايتان في نفس الإنسان، يحصل التنافر.
وإذا قلنا أن الإنسان
الذي وراء نشاطنا وحياتنا في الأرض هو الإنسان المخلوق لله،... فإذًا، أنا
لكي أصون إيماني، أعبد في عباداتي الخاصة. وهكذا أكرس إيماني بربي. ولكن في
أعمالي الخارجية أكرس عن طريق إيماني بالإنسان إيماني بربي. هنا يأتي هذا
السؤال:
مفهوم الإنسان الذي هو من صنع الله، يختلف عن مفهوم الإنسان من
دون الإيمان بالله. فالإيمان بالإنسان الذي ينبثق عن الإيمان بالله مفهوم
آخر، الإنسان الذي هو من صنع الله على صورة الله، ومثاله في أمثاله وصفاته.

الإنسان الذي هو من صنع الله ليس مادة فحسب، الإنسان الذي هو من صنع
الله، خالد ليس له حياة مادية فقط. وإنما هناك له الخلود. والإنسان بهذا
المعنى، إذا كان منشأ لنشاطي في الحياة على الأرض، فليست هذه علمنة بل هذا
معنى التدين، تدين الصلات، لأن الإنسان الذي هو من وراء حياتي على الأرض،
هو أثر من آثار الله.
فإذًا، أصبح غاية الغايات، وعلة العلل، هو الله
أيضًا. هنا أحب أن أسأل هذا السؤال: لماذا نخاف من تدخل الدين في حياة
الإنسان على الأرض؟
بعد ما عرفنا أن ما هو بين أيدينا ليس من الدين.
بعدما اعترفنا أن الحروب الصليبية، أو فتح قسطنطينية مثلًا، هذه التصرفات
التي حصلت، سواء من المسلمين، أو من المسيحيين، هذه التصرفات، بعدما
اعترفنا أنها ليست من أساس الدين، وليست من الدين في شيء. وبعدما قلنا أن
الواقع الذي نعيشه ليس هو الدين. وبعدما عرفنا أن الطائفية التي هي قائمة
في ديارنا ليست من آثار الدين، وكل ما يسمى باسم الدين من هذه الأمور
القائمة بيننا، حينما ما خضعنا لها كدين واعتبرنا لها مفهومًا بالدين غير
هذه المفاهيم. فلماذا لا ندعو إلى تدين الحياة على الأرض بالشكل الصحيح؟
وندعو إلى العلمنة؟ العلمنة في الحياة على الأرض نتيجتها أننا أيضًا
خُدِعنا بما نرى من مظاهر الدين في العالم. نعترف أن هذه المظاهر تشكل
خطرًا على الإنسان. هذه المظاهر تشكل خطرًا على الإنسان والدين. فالدين ليس
ملامًا بهذه النقطة أبدًا.
قد تقول: أين حرية الإنسان وكرامة الإنسان؟
وهل لا يكون من الأفضل أن نؤمن بأن الإنسان لا يحتاج إلى قَيِّم وأنه صار كبيرًا؟
الدعوة
إلى أن نُدْخِل الدين في حياة الإنسان على الأرض، هذا معناه بأن الإنسان
بحاجة إلى قَيِّم. فإذًا، أما صار الوقت أن نؤمن بأن الإنسان صار كبيرًا،
ولا يحتاج إلى قَيِّم؟ قد تقول: إن الأحكام الإلهية لها ظروف تاريخية، ونحن
تطورنا. قد تقول: إن كل شيء قد تغير وتبدل، فلماذا هذا التمسك بالأحكام
القديمة؟
ولكنك لا تتمكن من إنكار نوع من الانسجام بين الإيمان فعل
القلب وبين الأعمال فعل الجسد، ودون هذا لا يبقى لك إيمان. فإذا حاولت أن
تعطي إطارًا غيبيًا إلهيًا لحياة الإنسان على الأرض، لا يحول دون حرية
الإنسان في هذا الإطار، كما لا تحول دون حرية الإنسان مبادؤه الأساسية، ثم
لاحظت الظروف التاريخية المقارنة، فسمحت لنفسك بالتطور الذي ليس إلا تفاعل
الإنسان مع الأرض.
ما هو التطور؟
كل التطور ما هو إلا تفاعل
الإنسان مع الكون، قراءة الإنسان صفحة جديدة من الأرض، وانعكاس هذه المعرفة
على حياتي وحياتك ثم أُعطيت الأحكام وطرق الحياة، ولو في إطارها العام،
نوع من القداسة والاحترام. حينئذ نفس النشاط، نفس الخدمات، نفس القوانين،
نفس الأعمال الصادرة عن الإنسان حينما كسبت إطارًا غيبيًا واسعًا. هذا
الإطار هو ضمانة لتنفيذها، ولسهولة صدورها عن البشر، ولخلق نوع من الارتقاء
بعد العمل والسعي.
فإذًا، نحن بإمكاننا أن نصل إلى نفس الغاية، ولكن
في إطار ديني. إطار الواقع مع دراسة الظروف التاريخية. فإذًا، إذا تنكرنا
لما نحن فيه لا يجوز أن نتأثر وندعو إلى علمنة الحياة على الأرض. هذه أمور
متصلة بعضها ببعض لا تتجزأ.
إذا عزلنا الدين عن التأثير في التصرفات
العادية وفي الصلات البشرية فقد ضعف الإيمان; وضعف الإيمان يؤدي إلى فقدان
الدين قوة تحريكه، وتأثيره، وبالتالي يفقد دوره في الحياة. وإذا فقد الدين
دوره في الحياة، لا يمكن التعويض عنه بتكبير المساجد والكنائس ولا بتكريس
شعارات الدين، ولا بتقديس رجالات الدين; فالدين ليس كل هذا. ولا يتمكن عند
هذا من أداء أي دور رئيسي في الحياة. فإذا أريد أن أصون الإيمان يجب أن
يمارس الإيمان عمله وتأثيره في حياتنا العادية. وإلا فالإيمان يضعف ولا
يعوض عليه، ولا يتمكن أن يلعب دورًا رئيسيًا. ونحن إذا لاحظنا أن الحضارة
الحديثة قامت على أساس عزل الدين عن الحياة العلمية، والصناعية،
والإجتماعية. فبناة الحضارة الحديثة، صحيح أنهم ما أنكروا الدين، ولكن
تنكروا للدين وعزلوه عن التأثير في الحياة. فالمؤسسات الحضارية الحديثة
انطلقت دون أي تنسيق ودون أي قاعدة أصلية.
وهذا الأصل أدى إلى طغيان
مختلف جوانب الوجود في الإنسان. فرأس المال، والاطماع، والاستعمار،
والصراع، والصناعة، وأخيرًا الجنس. كل زاوية من زوايا الحضارة الحديثة طغت
وتطغى. ولا من منهج وتنسيق وتعديل، لأن الحضارة ما بُنيت على أسس أخلاقية.
وإنما بنيت على الأرض مع تنكر للسماء. ثم حصل بعد هذه الطغيانات، حصل ردات
الفعل، الثورات، الأنظمة الثورية، الإقتصاد الثوري، المفاهيم الثورية.
والحقيقة أن هذه الانعكاسات أيضًا، هي آثار الحضارة الحديثة، إنما آثار
سلبية، وردة الفعل في النفس، وانفعالات تتناسب مع الأساس. والمحصّل أن مرور
مئات السنين على تكوين الحضارة الحديثة على مختلف أنظمتها ما أدى إلى
تحسين حال الإنسان، كإنسان بمقدار مئات الدرجات.
وضع الإنسان حينما انطلقت الحضارة الحديثة، كيف كان؟ واليوم، كيف يكون وضع الإنسان؟
فإذا
لاحظنا أن الفرق بين الإنسان اليوم من جهة السعادة والرفاه والإنسانية
ليست أفضل مما كان عليه حين البدء بالحضارة الحديثة، يجب أن نقف ونتردد في
أن الحضارة الحديثة، هل هي حضارة إنسانية، أو حضارة نصف إنسانية، تهتم
بزاوية من زوايا الإنسان؟
هذا على الرغم من التقدم المدهش في حقول
عديدة كالعلم والصناعة، والتنظيم، والمستقبل; المستقبل لا يبدو أحسن حالاً
من الماضي أبدًا. لا أدري، هل يحق لي أن أسمي الحضارة المبنية على التنكر
للخالق، وليس على إنكار الخالق، حتى على تنكر الخالق، هل يحق لي أن أسميها
بالحضارة اليهودية؟ لأن هذه فلسفة يهودية قديمة يُحدث عنها التاريخ ويحدث
عنها القرآن، فيقول {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}
[المائدة، 64].
{يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة، 64]، يعني الله
موجود، ولكن لا يؤثر في الحياة. بنى وأسس، وخلق وترك الأمر لنا. ولا أعتقد
أن الدين يتمكن مع المحافظة على الخط العام الحضاري. يعني إذا بقي الخط
الحضاري كما هو اليوم، لا أعتقد أن الدين يتمكن أن يؤدي دورًا رئيسيًا في
العالم إلا مع خلق ثورة عارمة على الحضارات العالمية وتجديد صنعها من جديد.
وإلا هذا الخط الماشي سواء كان إيجابيًا، أو سلبيًا، غربيًا أو شرقيًا في
هذا الحقل، الدين لا يتمكن أن يؤدي دورًا رئيسيًا لأنه انبثق ووُضِعَ
البناء على أسس تنكر لما وراء الطبيعة فماذا يقدر أن يعمل الدين في هذا
الحقل وهو ماشٍ وراء هذا الركب؟ وبالذات لا أعتقد أن الغرب الذي تكوَّن،
وتكوَّنت حضارته في الأساس، على المادية، يتمكن من التحرر منها. وربما يؤدي
الشرق هذا الدور، وينقذ الشرق مرة أخرى البشرية بعد أن بلغت النهاية في
الانحطاط، وأُرهق بأحلام معسولة.
أما نحن في الشرق العربي، فقد نكون
أحسن حالاً من الغرب، حيث إن الدين معتكف على الأقل في مؤسساته وفي أعماق
القلوب. والشكل الحضاري، والقوالب التي تسيطر على كافة وجودنا الثقافي
والحضاري، لا تزال سطحية، ما تمكنت من القضاء على البقية الباقية من
الإيمان في نفوس الشرقيين. ونحن في لبنان، ونتيجة للتجارب المتنوعة، لعلنا
نتمكن أن نعمل شيئًا لنا ولهم. سيما ونحن في السنين الأخيرة عانينا الأمرين
من المادية المتمثلة بأبشع صورة وأقوى مظهر في إسرائيل.
رأينا نحن في
هذه السنين الأخيرة، تجاهل الضمير العالمي، بل مساندته في تكوين دولة
مغتصبة، باسم الكفارة عن جرائمهم معهم وباسم الإنسانية ولكن على حسابنا.
رأينا التغافل العجيب، والانخداع الغريب، أمام حملة التضليل. رأينا الحرب
والجرائم وقد كشفت عن وجه البشر في قمة الحضارة. رأينا التجارة والمنافسة
اللئيمة على كسب عاطفتنا، واختطاف أسواقنا. رأينا ونرى، ثم رأينا أنفسنا،
التفرق، والأنانية، وغير ذلك. رأينا، والحقيقة أن ما رأينا هو واقعنا، وقد
انكشف فماذا نعمل؟
نحن بحاجة إلى عمل ما، فلنبدأ في هذه المرحلة من
التاريخ بالعمل الشامل، ولنعطِ الدين دوره. فالدين قادر أكثر من أي عامل
آخر لتوفير طاقات الشباب ومنعها من الصب في الفساد، والميوعة والأضرار.
الدين قادر على أن يحد من هذا الطبع والهدر المستمر لطاقات الشباب. والدين
قادر على خلق طاقات هائلة من الفرد، لا يبالي بالموت ويسترخص الحياة دون
أهدافها التي هي أشمل من حياته المادية. وإذا تحقق ذلك فالدين يتمكن ـ إلى
حد كبير ـ من وضع حدٍ لغلواء الأنانية والمصالح الخاصة التي نعيشها هنا وقد
أهلكت الحرث والنسل. والدين يتمكن أيضًا من وضع صلات أفضل بين الأفراد،
وبين الجماعات على أساس أن «الخلق كلهم عيال الله، وأحبُّ الناس إلى الله
أنفعهم لعياله».
والدين أجرأ من أي قوة أخرى لوضع الحد أمام الطائفية
السياسية، أمام المتاجرة بالمقدسات، أمام المتاجرة بالله. والدين أفضل
وسيلة على إعادة الأمل بالنصر في نفوسنا لأن الإيمان بالله الحق هو الإيمان
بانتصار الحق. والدين أفضل طريق لإثارة شعور الإنسانية وإذكائه بيننا
كمواطنين وكعرب، وحتى بيننا وبين العالم. والدين سبيلنا الوحيد لأن نؤمن
بالانتصار كما سبق. سواء سقطنا في الطريق أو وصلنا إلى الغاية. هذا كله مع
جعل الدين الصحيح وإعطاء التفاسير الصحيحة الحية للمبادىء الدينية، ولأجل
هذا يجب علينا:
أولاً التربية الوطنية العميقة الشاملة المبتنية على
إعطاء أفكار واضحة عن الكون وعن المجتمع. فالتربية الصحيحة أيها الإخوان
ليست بأن نمنع الطالب من شيء أو نعوِّده على شيء قبل أن نعطيه فلسفة، وفكرة
عما حوله، وعن بلده، وعن الحق والباطل، وعن الكون، وعن التاريخ. توجيه
التربية للطفل كأفعال، توجيه سطحي، يجب أن نكوِّن لأولادنا فلسفة لتربيتهم،
إعطاء مفاهيم وتوضيح لأنفسهم، للإنسان، للوطن، للكون، للحق.
يجب علينا
وضع الخدمة الإجبارية في الحقل العسكري، وفي الحقل العام، حتى ولو كان في
الجمعيات. الخدمة العسكرية، أو غير العسكرية، الخدمة الإجبارية. بالإمكان
أن نضع كل شاب في المدرسة أو في غير المدرسة يجب عليه أن يشتغل سنة كتدريب.
قسم منها في الجيش، قسم منها في الحقل العام. يشتغل في المؤسسات، يشتغل في
الجمعيات، يشتغل في الحركات الإجتماعية. مفروض على الطفل أن يشتغل، لا
يكون شيئًا مسخًا في حياة اللبنانيين; حتى نخرج إلى حد ما من اللامسؤولية،
وعدم الإحساس مع الآخرين، والذوبان والضعف.
يجب علينا تنظيف البلاد من
موجبات الفساد. هذا واجب ولا يقابله شيء أبدًا. فالفساد المستشري والذي
تدعو إليه الأفلام، ووسائل الإعلام، والجرائد، والمجلات، أكثر من أن يذكر.
ولا يمكن علاج الإنسان ووضع حد لفساد الشباب دون خلق جو يعيش الشاب فيه
عيشة صالحة مكتفية. وإلا إذا عالجنا الشباب من هذا الجانب ثم تركنا لهم
بيئة تحيط بهم من كل جانب وتستدرجهم إلى الفساد من جانب آخر، فكما عالجنا
المريض وتركناه في وقت النقاهة، في وقتٍ، وفي شروطٍ، وفي أكل وشرب غير
ملائمين.
يجب علينا إيجاد حزم وجدّ في مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية
بتقديس المبادىء وخلق الاحترام، لأن الوضع الحاضر فيه كل شيء قابل للنقض.
وكل قانون قابل للتخطي. وكل شيء ممكن بالوسائط فهذا المفهوم الشائع لا يمكن
أن يربي وينمي في نفوسنا الحزم والجد.
تكوين هيئة دينية تحاول الاتصال
على هذا الأساس بالعالم الإسلامي والمسيحي، لأجل عمل جدي لما نعانيه من
الاحتلال وما نعانيه من الاستهتار بالمقدسات الدينية. مبادلة التجارب بين
المؤسسات الدينية فإن على المؤسسات الدينية في هذا العصر رسالة تاريخية لا
نظير لها، لا في سابق الزمن، ولا في مستقبل الأيام. لأن الدين لو استمر
بهذه الحالة سنفقد الأمل الوحيد في مستقبلنا. يجب على رجال الدين أن
يتحركوا، أن لا يجعلوا من أنفسهم طغاة نُسخًا طبق الأصل عن الحكام، يقلدون
أمجاد السياسيين والحكام. فالبشر مرهق من الأمجاد، ومرهق من الطغاة، ومتعذب
من العظماء والحجب والدوائر والسيارات والقصور. البشر بحاجة إلى من يحن
إليه، ويلمس قلبه، ويمسح عرقه، ويعيش معه. فإذا خلقنا لأنفسنا، لرجال الدين
أيضًا، أجواء مشابهة لأجواء رجال الدنيا، فقد قضينا على آخر الأمل، والأمل
الباقي من حياة الشعوب.
يجب علينا أن نقود الناس في محنهم، ونبدي
آراءنا في كل موقف، وأجوبتنا عن كل سؤال. فطالما تغيب الدين عن الحياة
البشرية العادية. يجب على رجال الدين أن يعيشوا في أنفسهم مُثُلًا. وانحراف
رجال الدين ليس بالانحراف الخلقي، ولا نتهمهم بذلك أو لا نتهم أنفسنا
بذلك. ولكن انحراف رجل الدين، أن لا يعيش أصيلًا، بل يعيش في التبعية إما
وراء أشخاص، أو كتل، أو سياسات، أو شعارات ليست له. فهذا معنى انحراف رجل
دين وفَقْد الأصالة عن نفسه. يجب عليه إعطاء صورة صحيحة عن الدين تتخطى
الإطار الحاضر. يجب علينا أن نبين كيف أن الدين يحرر ويدافع عن الحق ويدافع
عن العدالة ويسعى في خلق التقدم.
أما تحويل الشعارات إلى شعارات جديدة
مقتبسة من الأنظمة اليمينية أو اليسارية، فلا يحل المشكلة لأن هذا أيضًا
تبعية جديدة. فعلينا أن نعطي الشعارات الأصيلة: الدفاع عن الحق، عن العدل،
مهما كان الحق، ومهما كان العدل. ثم وضع منهاج جماعي في هذا الخلق، وفي هذا
الوقت. فبالإمكان أن رجال الدين بالتعاون يضعون منهجًا وأسسًا، ولا أدعو
إلى عودة السلطة الدينية والحكم الديني. ولكن الخطوط العريضة والنصائح
العامة، حل المشاكل القائمة، وإعطاء الأجوبة العريضة للمسائل المطروحة في
هذا الوقت ولعل رجال الدين بالتعاون وتبادل التجارب يتمكنون من إنقاذ
البقية الباقية ومن إعطاء الدور القيادي للدين في هذه الصور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://aminato.forumalgerie.net
HINATA67




عدد المساهمات : 10
تاريخ التسجيل : 24/05/2012

ديننا اليوم Empty
مُساهمةموضوع: رد: ديننا اليوم   ديننا اليوم Emptyالخميس مايو 24, 2012 7:17 pm

روووووووووووعه Smile
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ديننا اليوم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المراة العصرية :: الاسلامي-
انتقل الى: